لا يمكن لأي مجتمع أن يؤسس منظومة تنموية متقدمة ومنتجة في غياب منظومة لغوية قوية و متجذرة و قادرة على حمل مشاريعه و إنجازاته التنموية.لأن اللغة هي السلاح الحضاري و الخزان الفكري والمعمار الثقافي الذي يحدد الخصوصية الثقافية للشعوب، وهي المحرك النفسي و الوجداني وراء كل فعل تنموي.فليست اللغة مجرد أدوات وظيفية للتواصل ،ولا هي مجرد أوعية محايدة وجاهزة لحمل الأفكار و التصورات و المشاعر.إنما اللغة جذور و حضارة وتاريخ ورمز للهوية. وعليه فإن السيادة السياسية و الاقتصادية لشعب ما لا يمكن أن تتحقق بدون سيادة ثقافية ولغوية. وكل شعب وجه بوصلته نحو التنمية الاقتصادية وأهمل المسألة اللغوية واستهان بها و اعتبرها ثانوية ولم يمنحها حجمها الحضاري، فإن مساره في طريق التنمية لا يمكن أن يصل إلى مداه ، ولن يكون بإمكانه تحقيق أهدافه المرجوة،لأنه يفتقر إلى بناء صرح معماره الحضاري الذي ينبني أساسا على قوائم الخصوصية الثقافية والهوية اللغوية و الحضارية.
إن الدافع إلى الخوض في هذا الموضوع الحساس والشائك هو ذلك الغياب الخطير للمسألة اللغوية في البرامج الحزبية و المشاريع التنموية التي يرسم رجال السياسة في ضوئها آفاق التغيير المنشود و ملامح المستقبل الموعود. فالجميع- من سياسيين و مثقفين و اقتصاديين- يغض الطرف ويحجم عن تناول قضية اللغة وما يتهددها من أخطار وما يتربص بها من سهام قاتلة.وهي سهام سامة، إن أصابت هدفها، فإنها تفتك بالهوية و تعمل على خلخلة الكيان الحضاري برمته.ولعل هذه اللامبالاة هي أشد الأخطار وقعا وأكثرها أثرا على وضعية اللغة. فالمأزق اللغوي لا يغري السياسيين و لا يثير حساسية أصحاب القرار ولا يثير فيهم إرادة التحرك لإيقاف النزيف القاتل ومحاصرة الورم الخبيث الذي يتهدد اللغة. بل إننا نجد بعض المثقفين أنفسهم لا يولون هذا الموضوع ما يحتاجه من اهتمام ودراسة، فتجد بعضهم قد عصفت به رياح الاستلاب، واستبد به منطق التغريب حتى صار يستهين بلغته ويتحالف مع كل دعوة مشبوهة لتحجيم اللغة العربية وإبعادها عن مسرح الحياة ومنعها من ممارسة دورها التاريخي والحضاري.
ففي الوقت الذي نجد فيه الدول العظمى و الشعوب المتقدمة تعمل جاهدة وبمختلف الوسائل الممكنة لتعزيز وضعية لغاتها في العالم، وتجتهد في تلقيحها وتخصيبها وجعلها قادرة على الصمود والانتشار و الذيوع في الآفاق، وتنفق الأموال الطائلة لأجل إغراء العالم بها وضمان الإقبال عليها ،وهو سلوك نابع من إحساس عميق بدور اللغة في بناء الحضارة وفي ممارسة الاختراق النفسي و الفكري للحصون الثقافية ،ونابع من تفكير استراتيجي يمهد للقيادة العالمية ويبسط السبل لتحقيق العولمة السياسية و الاقتصادية و الثقافية، نجد بعض مثقفينا يسيرون في الاتجاه المعاكس لما يقتضيه دورهم الطبيعي في حماية مكتسباتهم الحضارية والدفاع عن خصوصيتهم الثقافية.بل إن منهم من يتواطؤ مع غيره ضد لغته و يسهل عملية الاختراق ويمهد الطريق للمشاريع الاستئصالية القادمة مع العولمة الثقافية التي تسعى إلى طمس الهويات ومسخ الخصوصيات وتحطيم الكيان اللغوي للشعوب الأصيلة.فهناك شبه تحالف استراتيجي بين الإرادة الدولية و النخبة المثقفة المتغربة من أجل إزاحة اللغة العربية ومحاصرتها وتزهيد الناس فيها.ولتحقيق هذا المقصد يتم إلصاق كل الصفات السلبية و التهم القدحية بهذه اللغة بكونها لغة متجاوزة لم تعد صالحة إلا لحمل التراث وتدوين التاريخ ،وغير قادرة على مواكبة العصر و مستجداته،وبكونها لا تستجيب لحاجات الإنسان المعاصر.ولكن هذه الجهات لا ترى مانعا في الترويج للغة العامية وتقديمها كبديل للفصحى. وكأن الإشكال سيجد حلا بمجرد تغيير اللسان الفصيح باللسان الدارج.والحقيقة أن سياسة التشجيع على تداول العامية في الإبداع الفني و الأدبي و عبر وسائل الإعلام و في الحوارات والمحاضرات ،ليست لكون العامية أسهل في التواصل بين الناس وأكثر استجابة لوضعياتهم وحاجاتهم، وإنما لأن سيادة العامية فيه نوع من تفكيك لبنيان أمة بأسرها ، وتفتيت لمعمارها الحضاري، وضرب لأهم مصدر من مصادر مناعتها. فاللغة الفصحى جامعة لأبنائها مهما اختلفت الأقطار وتنوعت الأمصار ومهما ابتعد الزمان والمكان، واللغة العربية لغة وحي و دين و حضارة ومشروع كوني، لغة خالدة ممتدة في تفاصيل الزمان.فكيف يصير الأمر إذا تعصب كل قطر لعاميته وتكلم الخليجي و المغاربي و الشامي والمصري و السوداني والعراقي...كل بلهجته المحلية ،وكيف يمكن التواصل بين أعضاء الجسد الواحد إذا استئصل الشريان الذي يمدها بالحياة ويربطها بجهاز المناعة .والنتيجة المتوقعة لهذا المشروع هي إعادة إنتاج نفس التراجيديا التي حلت باللغة اللاتينية ،حيث تفرعت عنها لهجات تحولت بحكم التداول إلى لغات رسمية،بينما تعرضت اللغة الأم للتهميش و الذوبان، وفرض عليها الغياب القسري.و إذا تحقق ذلك فإن الحل الوحيد المتبقي أمام الشعوب العربية هو اللجوء إلى اللغات الأجنبية للتعلم و الإبداع والتواصل.وهذا هو المشهد الذي يعمل على إخراجه مهندسو العولمة الثقافية بتواطؤ مع النخبة المتغربة وبمساندة الصمت الرهيب لأصحاب القرار السياسي.وهذا يعني أن هناك مشروعا يتم الإعداد له خارجيا وداخليا من أجل هدم صرح اللغة الفصحى لتيسير عملية الغزو الثقافي ولتعبيد الطريق للغزوة الاستعمارية الجديدة التي تستهدف العقول. ولعل السلاح الفتاك الذي يتم استخدامه لتوطين مشروع الثقافة الكونية هو اللغة.فبهذا السلاح يتم استلاب الشعوب و إضعاف مناعتها و إفقادها الثقة في مقومات حضارتها واستدراجها إلى حلبة التبعية و فقدان السيادة الثقافية التي هي بداية لفقدان سيادتها السياسية. فتداول اللغة الغازية إعلان بالهزيمة و استشعار بالدونية وفقدان للهوية. وأنا هنا لا أتحدث عن لغة العلم والمعرفة و إنما عن لغة التواصل اليومي بين أفراد المجتمع مهما تنوعت وضعياتهم ومسؤولياتهم .فحينما يسمح الفرد لنفسه بأن يخاطب ابنه أو شقيقه بلغة مستوردة دخيلة على كيانه الحضاري و التاريخي ،أو يرضى بأن يؤثث لغته أو لهجته بمفردات أجنبية، فهذا اعتراف ضمني بالعجز وإحساس بالدونية وإساءة للهوية.لأن الشعب الذي يحترم نفسه وأصوله ومقومات هويته يتعصب للغته ، وهو تعصب محمود إذا تعلق الأمر بالتواصل اليومي.وأما تعلم اللغات العالمية باعتبارها أدوات لحمل العلوم وتحصيل المعارف فهذا أمر مطلوب وضروري لا مراء فيه ولا جدال، ولا مكان في هذا الزمن لمن يكتفي بلغة واحدة أو يرفض الانفتاح على العالم.و إنما الحديث هنا عن أولئك الذين يرون في استخدام لغة الأجنبي ضربا من التميز ومؤشرا دالا على التمدن و التحضر،ويحرصون على ترصيع كلامهم بمفردات أعجمية دخيلة ،وكأن الكلام لا يستوي عوده ولا يصل دويه ولا يستساغ طعمه إلا باعتماد التوابل المستوردة.وإذا كنا نرفض هذا السلوك من الفرد العادي ،فإن صدوره من أصحاب المسؤولية السياسية ومن حماة الديار ورعاة الكيان الحضاري ورجال الدولة يعد مسا بالأمن اللغوي و الثقافي والحضاري للأمة.فتلويث اللغة بالدخيل نوع من اغتصاب قداسة الهوية وجرم في حق أم المرجعيات .فكل اختراق للغة الأم فصل من فصول الحرب المعلنة ضد الخصوصية الثقافية في أفق تنحي هذه اللغة وانزوائها واستسلامها للغة الغازية.ولكن الضربات الأقوى التي تتعرض لها اللغة هي التي تكون من ذوي القربى.فأبناء العربية و بناتها هم أول من يدق المسامير في نعشها وأول من يعد العدة لإقبارها وتغييبها من واقع الحياة ومن دنيا الناس.
كيف يمكن لأمة عريقة أن تؤسس حضارتها بغير لغتها؟وهل حدث في التاريخ أن قامت حضارة عظيمة بلغة مستعارة؟وهل استعارة لغة أجنبية اختيار صائب واستراتيجي للمساهمة في هذا السياق العولمي المعاصر؟
إن التاريخ يعلمنا بأن الحضارات الإنسانية تستفيد من بعضها و تتلاقح فيما بينها، ولكن تبقى لكل حضارة خصوصيتها التي تميزها عن غيرها .وأهم مرتكزات هذا التميز هو العنصر اللغوي ،لأنه البناء الخلفي لكل مشروع حضاري ، وهو الدعامة النفسية والأخلاقية لكل أمة تحترم تاريخها وتقدس هويتها.فالانفتاح على الثقافات الإنسانية ضرورة واقعية، وامتلاك اللغات الإنسانية واجب حضاري يفرض نفسه ،ولكن ليس الممر إلى ذلك على حساب اللغة الأم .فالكوريون و اليابانيون و الصينيون والروس وغيرهم فرضوا وجودهم في مضمار الحضارة الكونية بانفتاحهم على العالم من جهة، وبإخلاصهم ووفائهم للغاتهم من جهة ثانية، بل إن هناك من الشعوب من كانت لغتهم ميتة ، ولكنهم بإرادتهم القوية و احترامهم لتاريخهم وهويتهم،وبامتلاكهم لمشروع نهضوي متكامل تحتل فيه اللغة رأس الأولويات، عملوا على إحيائها وجعلها لغة التواصل و الإعلام والإبداع.ودولة عصرية مثل كوريا الجنوبية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كانت دولة فقيرة لا تختلف عن وضعية بعض الدول العربية كالمغرب على مستوى مؤشر التنمية حسب ما ورد في تقرير البنك الدولي لسنة1992، ولكن هذه الأمة المحصنة ثقافيا فرضت وجودها الحضاري متخلصة من عقدة الدونية ومعتزة بثقافتها و لغتها، ومبدعة في منجزاتها الحضارية التي تكتسح الآن العالم بأسره.وهذا النموذج الكوري خير دليل على كون التمدن و التحضر لا يفترض بالضرورة الانصياع التام والخضوع المطلق لثقافة الغالب المتفوق علميا وتكنولوجيا.
إننا – ونحن نسعى إلى بناء أمتنا وصياغة حضارتها- في حاجة إلى احترام الذات أولا وإلى الثقة في مكتسباتنا الحضارية والوفاء لتاريخنا .كما نحن في حاجة إلى الاستفادة من دروس التاريخ الإنساني حتى نؤسس مشاريعنا التنموية على أسس متينة وبوعي ثقافي أصيل ومنفتح.فبقاؤنا رهين ببقاء لغتنا حية محترمة في الداخل، حتى نتمكن من فرض احترامها على الخارج.وعلينا أن نعرف بأن الشعوب التي تستهين بلغتها معرضة دوما للزوال .فضياع اللغة يستتبع بالضرورة ضياع أهلها. وهذا ما حدث بالفعل للبابليين و الآشوريين و السومريين وغيرهم من الشعوب القديمة ،فانحسار تداول لغاتهم كان بداية ذوبانهم وانقراضهم.ولهذا وجب على الفاعلين السياسيين و أصحاب القرار ورجال الثقافة أن يعملوا على صياغة مشروع لغوي واضح وجريء يضمن للغة العربية ما تستحقه من احترام وما تحتاجه من تخصيب و توليد وتجديد، حتى تمارس حضورها الاجتماعي وتقوم بدورها الحضاري.فإذا كنا نملك في الدستور المغربي لغتين رسميتين، فما بالنا نزهد فيهما معا ونلجأ إلى اللغة الأجنبية؟ألم نخض فصولا طويلة من النضال من أجل ترسيم الأمازيغية؟ فلماذا إذن نخونها كما نخون العربية حينما نلوثهما باللسان الدخيل؟ لماذا نستهين بذاتنا الثقافية ونقف بباب الغرب أذلاء نستجدي رضاه ؟